فى بيتنا ِرجل
رحلة الاعتقاد بالخرافات لابد ان تبدأ من الطفولة، ومن منا لم يمر بتلك المرحلة وترك لخياله العنان لينسج ويجسد كل ما يسمع من حكايات عن الجن والاشباح والبيوت المسكونة وأبو رجل مسلوخه وأمنا الغولة وغيرهم من شخصيات الحكايات الوهمية المخيفة
الطفل بطبعه يريد ان يرى ويعرف كل شيئ واى شيئ عن اى شيئ يشبع لديه غريزة حب الاستطلاع ومعرفه المجهول الذى لا يعلم تفاصيله سوى الكبار.. وكثير جدا من الكبار لا يدرك مدى تأثير الروايات المخيفة على الطفل
كونك تتحدث الى طفل فى عمر 3 سنوات عن الموت والاخرة والحساب والعقاب ظنا منك انك بذلك تعلمه ان لا يكذب او يطمع او تمتد يده دون اذن لما لا يخصه فهذا هو الغباء بعينه لان زرع القيم وتهذيب السلوك والخلق إن تم بالتخويف والترهيب فلن يصنع من الطفل شخص سوى بل سيصنع منه طفل معاق فكريا، كلمة الموت فى حد ذاتها ربما بسيطة على اذن الكبير ولكنها فى نظر الصغير ساعات طويلة من الرهبة والخوف والاضطراب النفسى والارق.. ليل مخيف وغرفة مظلمة تضيق وتضيق حتى يشعر انه يكاد يختنق فى سريره دون ان يجد مخرجا.. لان الكبير استهان بوقع الكلمات على عقل الصغير ولم يدرك ابعادها.. والصغير يشعر ان ملاذه وحاميه هو من تسبب فى تخويفه ورهبته فتضيق الدنيا اكثر واكثر الى ان يلتقطه النوم ليخرجه من ضوضاء عقله الواعى ويقذف به الى غياهب عقله الباطن الذى يجسد له فى احلام وكوابيس مزعجة كل الشخصيات المخيفة.. فيرى الصغير اخيرا وللمرة الاولى خرافات واساطير الكبار وقد تحولت الى واقع.. ومن هنا تبدأ مرحلة الايمان.. الايمان بالخرافات.. بالغيب.. بالله.. بعذاب القبر.. بالجن والملائكة والشياطين والاشباح
مساكين هؤلاء الاطفال.. يأتون الى الحياة بعقل وذهن صاف وغريزة حب الحياة تدفعهم لاستكشافها لمعرفة الحياة وخباياها فيصطدموا اول ما يصطدموا بهمجية وخرافات الكبار
لا احد يستطيع ان يحجب المعرفة عن الطفل او يحميه من خرافات الكبار، وان لم يبتليك قدرك بوالدين من النوعية التى ذكرتها سلفا فسوف يبتليك بجار او جاره او فرد من العائلة يخبرك بما اخبروه فى صغره وعندما تحاول الاستفسار عن الامر من والديك تكتشف ان محاولات الاب والام تلطيف الصورة لن ينجيك من التفكير والتأمل والتوتر عندما يأتى الليل وتجد نفسك فى مواجهة سقف غرفتك تنتظر ان ترى اشباح او جن او شياطين سمعت بها ولكنك لم تراها من قبل ولم يكن لوجودها او عدمه اى تاثير سلبى على نومك وتفكيرك قبل تلك الليلة.. انها الليلة الاولى مع الموت والعذاب والقبر والجن والشياطين.. ومن الآن فصاعدا لم يعد سكان المنزل هم أنا وابى وامى فقط ولكن.. اصبح بالبيت سكان جدد يجوبون البيت اثناء الليل! لقد كانت حياتى افضل كثيرا قبل ان اعرف بوجود تلك الكائنات..لا خوف ولا رعب ولا احلام مزعجة ولا كوابيس.. ماذا افعل الان وفى بيتنا رِجل غريبة؟
عندما كنت فى المرحلة الابتدائية وتحديدا فى السنة النهائية كان لى زميل دراسة ظريف جدا وشقى جدا ويفعل اشياء تثير الاستغراب والتعجب، المدرسة التى ندرس بها كانت خاصة، ولم يكن فى الكلاس بأكمله شخصية مثيرة مثل هذا الزميل، كأننا جميعا من نفس الاسرة وتلقينا نفس التربية ولنا تقريبا نفس السلوك.. لا عنف.. أدب جم.. لطف فى المعاملة.. حتى الشقاوة كانت دون إساءة او أذى.. عدا هذا الزميل.. هو الوحيد الذى يأتى متأخرا الى المدرسة رغم انه يقيم قريب من المدرسة.. هو الوحيد الذى يمسك الكرة وسط الملعب بيده اثناء المباراة، هو الوحيد الذى يعرف كثيرا عن اشياء مشوقة نجهلها.. مثل الجنس وبودرة منع الحمل ( للنهاردة ماعرفتش بودرة ايه دى اللى تمنع الحمل! بودرة صراصير ولا بودرة العفريت!) ويعرف الكثير عن الموت والجن والعفاريت.. هو الوحيد الذى تأتى خالته او امه الى المدرسة من وقت الى اخر لتشكو سوء سلوكه فى البيت.. بينما ننظر اليه جميعا كأنه هيرو.. واو لقد قذف امه بلمبة الجاز! كثير منا سمع بلمبة الجاز ولكنه لم يراها سوى فى بعض المحلات او فى الافلام.. قذف امه بلمبة جاز مشتعلة؟! لهذا لن انسى الافواه والعيون المفتوحه واصوات ونظرات الاستغراب عندما سمعنا الخبر من خالته وهى تشكوه للمدرس.. اما هو.. فلا يعير اى اهتمام ويشاركنا الابتسام بخبث بينما تكمل خالته حديثها الى المدرس قائلة : أنا قولتلو حشتكيك للمس ولا همو فيا ريت تقوله يكون كويس يا استاذ لان ابوه لو عرف حيموته
يخاطب الاستاذ زميلنا: مش عيب كده؟
فيرد زميلنا مبتسم بينما يوزع نظراته علينا: دى قالتلك يا مس
لم يكن هذا الزميل صديقى ولم اذهب الى بيته او آتى هو الى بيتى برغم قضاء خمس سنوات تقريبا معا فى نفس الكلاس، وفى احد الايام بينما نقضى فترة الصباح فى مكتبة المدرسة نبحث عن قصة قصيرة مشوقة لنقوم بقراءتها ثم نعد موضوع عنها فى البيت ونقدمه فى اليوم التالى.. اذا بهذا الزميل يقول للمدرس بصوت مرتفع: مش حعرف اكتب حاجة فى البيت النهاردة اصل حيعملوا لخالتى زار. فرد المدرس مبتسم: اكتبه بعد بكره. لم افهم معنى زار وذهبت اسأله : يعنى ايه اللى قولته ده؟ والتفت حولنا سريعا شلة الفضوليين المعتادة بينما يحدثنا زميلنا عن خالته التى اتت يوما لتشكوه للمدرس.. قائلا : النهاردة مش حعرف اكتب اى حاجة عشان حيعملوا لخالتى زار!.. فسألناه فى صوت واحد: يعنى ايه زار؟ فرد باستغراب: انتم متعرفوش اى حاجة فى اى حاجه زار يعنى يخرجوا من عليها عفريت.. وبمجرد ان ذكر كلمة عفريت غادر عدد منا وبقيت انا واثنين اخرين نطلب منه ان يفسر لنا ما هو الزار وكيف يخرج العفريت
معنى هذا ان العفاريت لا تسكن البيوت فقط ولا تخترق الجدران فقط ولكن يمكنها ايضا ان تخترق اجسادنا وتسكن داخلنا فتغير من سلوكنا فنؤذى انفسنا او نؤذى الاخرين! كان يوم اسود يوم ما سمعنا ان فى حاجة اسمها عفاريت.. وده بيخرجوه ازاى؟
تكتشف انهم يرقصون ويشكلون حلقة للذكر يرددون فيها اغانى دينية تحوى ايات قرآنية، ثم يقومون بذبح دجاج واسالة دمه على جسد الشخص المراد اخراج الجن منه.. وان لم يخرج الجن .. يقومون بلف الشخص فى ملاية سرير ويضربوه بعصا غليظة حتى يخرج الجن تماما كما تفعل الملائكة عندما تعذب الموتى فى القبور! ومن اين يخرج الجن؟ من اى فتحه فى الجسد واحيانا من بين الاظافرواللحم
مرت سنوات وانتقلنا سويا الى المرحلة الاعدادية واقتربت اكثر من زميلى هذا ولكن لم نصبح بعد اصدقاء.. كان والده يعمل مقاول معمارى ويبدو ان مهنة والده كانت عقبه فى ان نصبح اصدقاء فلم يكن مسموح لى ان اكون صداقات او ازور زملاء دراسه فى بيوتهم الا بموافقة الاهل.. وعندما سمعت امى ان والده يعمل مقاول معمارى طلبت منى ان اتجنب الاختلاط بزميلى كثيرا ورفضت ان ازوره او يزورنى.. لا ادرى ان كان السبب هو مهنة والده ام الاسئلة والاستفسارات الكثيرة التى سألتها لأمى عن الجن والزار واخراج العفاريت وعلمت هى ان مصدر المعلومات هو هذا الزميل.. وفى احد الايام بينما نلعب الكرة فى المدرسة سقط هذا الزميل على الارض ولم ينهض او يصرخ فى احد كالعادة.. ذهبنا اليه لنرى ما به فوجدنا جسده يهتز بعنف ويبدو انه فاقد للوعى لانه لا يستجيب لنا.. فى هذه الاثناء حضر مدرس التربية الرياضية مهرولا واخرج منديل من جيبه وضع جزء منه بين اسنان زميلنا ثم حمله وتوجه به الى مكتب الاخصائية.. بعد فتره قصيرة آتت سيارة إسعاف لتنقل زميلنا الى المستشفى وعلمنا من المدرس انه بخير ولكنه يحتاج الى الراحة لهذا سيغيب عن الدراسة لعدة ايام وطلب منا ان نقضى باقى فترة الرياضة الصباحية فى الكلاس ليرسم كل منا صورة او يكتب رسالة ويوقعها بإسمه يتمنى فيها الشفاء العاجل لزميلنا على ان ترسلها المدرسه اليه فى المستشفى
فى اليوم التالى طلبت الاخصائية الاجتماعية من 5 تلاميذ انا منهم ان نذهب معها فى سيارة المدرسة لزيارة زميلنا بالمستشفى وعلمنا منها ان زميلنا هو الذى طلب رؤيتنا وانها ايضا اتصلت بأولياء امورنا لآخذ موافقتهم وانه لا مانع لديهم، وحملنا معها عدة هدايا اعدتها لزميلنا والصور والرسائل التى أعدها الكلاس وذهبنا للمستشفى
وجدت زميلنا على فراش المستشفى هادئ على غير عادته، وما ان قالت الاخصائية: حسيبكم مع بعض عشر دقايق وبعدين حنمشى عشان هو يرتاح وانتم ترجعوا الكلاس. سأل زميلنا بصوت هادئ: هو انا حصلى ايه امبارح؟ فرد احدنا: وقعت واغمى عليك. ورد زميلنا: انا مش فاكر اى حاجه. مرت الدقائق سريعة بين اسئلته واجوبتنا وكانت هذه هى المرة الاولى التى يصغى هو الينا وليس العكس، وبينما كنا نهم بالخروج طلب منى ان اقترب منه وقال بصوت خافت: انا خايف ليكون عليا عفريت ويعملوا فيا اللى بيعملوه فى خالتى، بس الدكتور قالى ماعلكش حاجة انت عيان، قولتله يقولهم كده عشان ما يضربونيش زى خالتى. وطلب منى ان ازوره فى اليوم التالى فأجبته: مش حعرف اجى لوحدى ولازم اقول لماما لو رضت حاجى
علمت فيما بعد ان زميلنا مصاب بأحد انواع الصرع
الصرع يقتل مئات من المصريين سنويا بسبب الجهل والتخلف المتفشى بين فقراء المسلمين، المرض فى حد ذاته غير قاتل ولكن القتل يتم بيد شيوخ الجهل والتخلف الذين يمارسون طقوس الدجل والشعوذة الاسلامية ويعتقدون ان الصرع مس من الجن او ان الجن لبس الشخص فيقوموا بتكتيف الشخص وكويه بالنار وضربه بينما يقرؤون عليه آيات قرآنية لا تضر ولا تنفع
الصرع مرض عضوى يصيب 1% من سكان الارض، 4% من هذه النسبة تعود اسباب اصابتها لاسباب وراثية والنسبة العظمى تعود لاسباب اخرى كالاصابة بامراض عضوية اخرى قد تؤدى لوجود خوراج فى الدماغ او تلف فى بعض خلايا المخ، او نتيجة التعرض لحادث.. الاسباب عديدة جدا وبرغم ان لا علاقة من قريب او بعيد لكائنات خرافيه بهذا المرض.. ظل هذا المرض لملايين السنين يفسر على انه من فعل الجن والشياطين والارواح الشريرة وسيظل هذا الفكر منتشرا بين الجهلة المعاقين فكريا من المؤمنين بخرافات الله ورسوله طالما استسلموا لاقوال ابن امنه واعتمدوا على النقل وليس العقل كما يدعوهم تجار ومرتزقة الدين
شاهد الفيديو التالى لتتعرف على هذا المرض واسبابه، وسأكمل حوارى عن الجن قريبا فى المقال القادم